اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم بن أبي الأرقم ليجتمع فيها بالمسلمين سرًّا؛ حفاظًا على دعوته وأصحابه، إذ كانت بعيدة عن أعين الطغاة وتفكيرهم، وكانت على جبل الصفا.
وهي بمعزل عن المتربصين بالمسلمين في مكة، وكانت -فضلاً عن ذلك- للأرقم بن أبي الأرقم، وهو من السابقين الأولين الذين استجابوا لله والرسول.
وكان الأرقم -رضي الله عنه- في السادسة عشرة من عمره يوم أسلم، ويوم أن تفكِّر قريش في البحث عن مركز تجمع المسلمين، لن يخطر في بالها أن تبحث في بيوت الفتيان الصغار، بل يتجه نظرها إلى بيوت كبار الصحابة، وهذا من حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي هذه الدار المباركة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتقي بأصحابه رضي الله عنهم، يتلو عليهم آيات الله ويزكيهم، ويعلمهم أمور دينهم، ويباحثهم في شأن الدعوة وما وصلت إليه، ويسمع شكواهم وما يلقونه من أذى المشركين وكيدهم، ويتحسس آلامهم وآمالهم، ويطلب منهم الصبر والثبات على دينهم، ويبشرهم أن العاقبة للمتقين.
وقد اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم مقرًّا سريًّا لدعوته، والحفاظ على أصحابه وتربيتهم وإعدادهم، بعد المواجهة التي حدثت بين سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- وقريش.
قال ابن إسحاق: "... كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا ذهبوا في الشعاب، فاستخفوا بصلاتهم من قومهم، فبينما سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شِعب من شعاب مكة، إذ ظهر عليه نفر من المشركين وهم يصلون.
فناكروهم، وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلاً من المشركين بلحي بعير فشجّه، فكان أول دم أهريق في الإسلام".
ومن ثَمّ أصبحت دار الأرقم بن أبي الأرقم -رضي الله عنه- مركزًا للدعوة السرية، يتجمع فيه المسلمون، ويتلقون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كل جديد من الوحي، ويتربون على يديه صلى الله عليه وسلم.
لقد مرت الدعوة النبوية بمرحلتين أساسيتين: مرحلة الدعوة السرية، وكانت ثلاث سنين بمكة المكرمة، ومرحلة الدعوة الجهرية وهي ما بعد ذلك.
فكانت طبيعة المرحلة الأولى تتطلب سرية العمل الدعوي، ريثما تتهيأ الظروف المناسبة للجهر بها، وكانت دار الأرقم هي المكان المناسب لذلك، والسرية في بداية الدعوة، كانت لضرورة فرضها الواقع، وإلاّ فالأصل هو بيان دين الله وشرعه للناس جميعًا.
واقتضت حكمة الله سبحانه أن تبقى دعوة الإسلام ضمن مجالها السري في دار الأرقم، إلى أن هيأ الله لها من الأسباب ما مكنها من إشهار أمرها وإعلان رسالتها {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].
ومن خلال هذه المرحلة كغيرها من مراحل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ظهرت حكمة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان يهتم بالتخطيط الدقيق، ويحسب لكل خطوة حسابها، فقد كان مدركًا أنه سيأتي اليوم الذي يؤمر فيه بالدعوة علنًا وجهرًا.
وأن هذه المرحلة سيكون لها شدتها وصعوبتها على المسلمين، ومن ثَمّ فحاجة الجماعة المؤمنة تقتضي أن يلتقي الرسول صلى الله عليه وسلم المُرَبِّي مع أصحابه؛ ليعلمهم ويربيهم ويشحذ هممهم، ويُعِدّهم ليكونوا بناة الدولة المسلمة، وحملة الدعوة، واللبنة الأولى التي قام عليها هذا الصرح العظيم.
ومن ثَم استمر النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته السرية وتربيته لأصحابه في دار الأرقم، حتى أصبحت هذه الدار أعظم مدرسة للتربية والإعداد عرفها التاريخ؛ إذ تخرج منها قادة حرروا البشرية من رق العبودية، وأخرجوهم من الظلمات إلى النور، بعد أن رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد حرص عليه الصلاة والسلام حرصًا شديدًا على أن يكون القرآن الكريم هو المنهج الذي يربي عليه أصحابه، وألا يختلط تعليمهم وتربيتهم بشيء من غير القرآن، وكانت قلوب الصحابة وأرواحهم تتفاعل مع القرآن وتنفعل به، فيتحول الواحد منهم إلى إنسان جديد بقيمه ومشاعره، وأهدافه وسلوكه، وتطلعاته وأمنياته.
ومن ثَم أدرك الصحابة وتعلموا في دار الأرقم أن القرآن وحده وتوجيهات النبي صلى الله عليه وسلم هما: المنهج للحياة والدعوة، والدستور للواقع والدولة، فكانوا من شدة تلهفهم إلى معرفة أوامر الله وأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا سمعوا أحدًا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابتدرته أبصارهم، كما يقول ذلك عبد الله بن عباس رضي الله عنه.
وعلى ذلك تربى الجيل الفريد من هذه الأمة، فكانوا يلتمسون من آيات القرآن الكريم، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ما يوجههم في كل شأن من شئون حياتهم.
لقد كانت مرحلة دار الأرقم مرحلة مهمة في تربية وإعداد الصحابة، ومدرسة رَبَّى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أفذاذ الرجال، الذين حملوا راية التوحيد والجهاد والدعوة، فدانت لهم الجزيرة العربية، وقاموا بالفتوحات الإسلامية العظيمة في نصف قرن.
الكاتب: د. نظمي خليل أبو العطا
المصدر: موقع إسلام ويب